البئر الأولى - جبرا إبراهيم جبرا

    البئر الأولى هي بئر الطفولة. إنها تلك البئر التي تجمعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات ، أولى الأفراح والأحزان والأشواق والمخاوف التي تنهمر على الطفل ، فأخذ إدراكه يتزايد ووعيه يتصاعد لما يمر به كل يوم ، ويعانيه بعذاب أو  يتلذذ به.
    تحميل السيرة الذاتية لجبرا ابراهيم جبرا.......
    كلما أردنا التحول إلى دار جديدة نسكنها ، كان أول ما نسأل عنه هو البئر . هل توجد بئر في حوش الدار ؟ هل هي عميقة ؟ وفي حالة جيدة ؟ هل ماؤها طيب ؟ أم أنها لم تنزح من طينها منذ سنين؟
    كانت الآبار أنواعا ، وبقدر ما كان الدور . وكانت خرزاتها أنواعا كذلك . وخرزة البئر أشبه بسجل تاريخي للدار وبئرها معا : مع تقادم السنين ، تترك حبال الدلاء ، وهي تنزل في البئر وتصعد ، آثارها في ((فم)) الخرزة ، فتصقله أولا ، ثم تحفر فيه أخاديد تعمق مع مضي الزمن ، وتتكاثر.
    أما الآبار التي تركب على كل منها قوس من الحديد تتوسطها بكرة ، ينزل الحبل بها ويرفع وهي تقرقع ، فكانت قليلة ، ولا توجد إلا في الدور الكبيرة التي ينعم أصحابها بشيء من الرفاه ، وتنزل المياه إلى آبارهم من على السطوح بأنابيب مدفونة. وقد تركب على هذه الآبار المحظوظة مضخات تغني أهليها عن الدلاء. غير أن الدور التي كنا نأوي إليها كانت دائما من النوع البدائي : ينسكب ماء المطر من مزراب سطح الواحدة منها إلى الحوش ، ويلتقي بما ينحدر من تجمع الماء في الحوض نفسه ، وتصب المياه كلها في حفرة لا يزيد عمقها على المتر الواحد قرب البئر ، وعلى ارتفاع قليل من قعرها مسرب يتصل بباطن البئر....

    ضع تعليق

سياسة الخصوصية | اتصل بنا | copyright 2013 © 2014 مجرة الكتب