دعاء الكروان - طه حسين

    لم يكن يقدر أني سألقاه قائمة باسمة حين أقبل إلي في ظلمة الليل يسعى كأنه الحية أو كأنه اللص ، لكنه لم يكد يبلغ باب الغرفة ويتبين شخصي ماثلا في وسطها وعلى وجهه ايتسامة شاحبة كأنها ابتسامة الأشباح حتى أخذه شيء من الذعر ، فتراجع خطوات ثم قال في
    صوت أبيض جعل يأخذ صوته الطبيعي قليلا قليلا : ماذا! ألا تزالين ساهرة إلى الآن؟ أتعلمين متى أنت من الليل؟ قلت : لقد جاوزت ثلثه وما كان ينبغي لي أن أنام قبل أن ينام سيدي ، فما يدريني لعله يحتاج إلى شيء.
    قال وقد عاد إلى ثباته وهدوء نفسه واسترد صوته شيئا من قحته المألوفة ودعابته البغيضة : ما رأيت قبلك خادما مثلك تحسن العناية بسيدها وتسهر منتظرة مقدمه آخر الليل . لقد كنت أحسبك نائمة كما تعودت أن أرى من سبقك في خدمتي ، وكنت أقدر أني سأجد في إيقاظك بعض الجهد ، فلست أدري ما بال نوم الخدم يثقل حتى كأنهم أموات . قلت : قد أرحت سيدي من هذا الجهد ، وانتظرت مقدمه كما تعودت منذ اصطنعت خدمة المترفين الذين لا يحبون إنفاق الليل في دورهم ، فليأمر سيدي بما يريد . قال وهو يضحك ضحكا سمجا وقد مد إلي يدا وددت لو استطعت قطعها ، ولكنني تراجعت حتى لا تبلغني : فإن سيدك يأمرك أن تتبعيه.
    ثم انحدر إلى غرفته ومضيت في اثره.
    لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! مازلت ساهرة أرقب مقدمك وأنتظر نداءك ، وما كان ينبغي لي أن أنام حتى أحس قربك ، وأسمع صوتك ، وأستجيب لدعائك . ألم أتعود هذا منذ أكثر من عشرين عاما!
    لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! ما أحب صوتك إلى نفسي إذا جثم الليل ، وهدأ الكون ، ونامت الحياة ، وانطلقت الأرواح في هذا السكون المظلم ، آمنة لا تخاف ، صامتة لا تسمع!
    إن صوتك إذن لأشبه الأشياء بأن يكون صوتا لروح من هذه الأرواح ليذكرني روح هذه الأخت التي شهدت مصرعها معي في تلك الليلة المهيبة الرهيبة ، وفي ذلك الفضاء العريض الذي لم يكن من سبيل إلى أن يسمع الصوت فيه مهما يرتفع ، ولا أن يجيب المغيث فيه لمن استغاث.

    ضع تعليق

سياسة الخصوصية | اتصل بنا | copyright 2013 © 2014 مجرة الكتب