الأيام ((في مجلد واحد)) - طه حسين

    هذا حديث أمليته في بعض أوقات الفراغ لم أكن أريد أن يصدر في كتاب يقرؤه الناس، ولعلي لم أكن أريد أن أُعيد قراءته بعد إملائه، وإنما أمليته لأتخلص بإملائه من بعض الهموم الثقال والخواطر المحزنة التي كثيراً ما تعتري الناس بي حينٍ وحين.
    الأيام في مجلد واحد لطه حسين
    الأيام ((في مجلد واحد)) لطه حسين

    الذين يقرأون هذا الحديث من المكفوفين، سيرون فيه حياة صديق لهم في أيام الصبا تأثر بمحنتهم هذه قليلاً قليلاً حين عرفها، وهو لم يعرفها إلا شيئاً فشيئا حين لاحظ ما بينه وبين إخوته من فرق في تصور الأشياء وممارستها.
    كان يخاف أشد الخوف أشخاصاً يتمثلها قد وقفت على باب الحجرة فسدته سداً، وأخذت تأتي بحركات مختلفة أشبه شيء بحركات المتصوفة في حلقات الذكر، وكان يعتقد أن ليس له حصن من كل هذه الأشباح المخوفة والأصوات المنكرة، إلا أن يلتف في لحافه من الرأس إلى القدم وكان واثقاً أنه إن ترك ثغرة في لحافه فلا بد من أن تمتد منها يد عفريت إلى جسمه فتناله بالغمز والعبث.
    كان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقته، وكان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم مكاناً خاصاً يمتاز به.على أنه لم يلبث أن تبين أن لغيره من الناس عليه فضل وإن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع، وأحس أن أمه تأذن لإخوته وأخواته في أشياء تحظرها عليه،، وكان ذلك يحفظه، ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق، ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به، فعلم أنهم يرون ما لا يرى.
    كان قليل الأكل لا لأنه كان قليل الميل إلى الطعام، بل لأنه كان يخشى أن يوصف بالشره أو أن يتغامز عليه إخوته.وقد آلمه ذلك أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن تعوده حتى أصبح من العسير عليه أن يأكل كما يأكل الناس.كان أهل القرية يحبون التصوف ويقيمون الأذكار، وكان صاحبنا يحب منهم ذلك، ولم يبلغ التاسعة من عمره حتى كان قد وعى من الأغاني والتعديد والقصص وشعر الهلاليين والأوراد والأدعية جملة صالحة، وحفظ إلى ذلك كله القرآن.
    ولكنه لا يعرف كيف حفظ القرآن، ولا يذكر كيف بدأه، ولا كيف أعاده، وإن كان يذكر من حياته في الكتاب مواقف كثيرة، منها ما يضحكه ومنها ما يحزنه؛ يذكر أوقاتاً كان يذهب فيها إلى الكتاب محمولاً على كتف أحد أخويه، لأن الكتاب كان بعيداً، ولأنه كان أضعف من أن يقطعه ماشياً تلك المسافة.
    أصبح صبينا شيخاً وإن لم يتجاوز التاسعة لأنه حفظ القرآن، ومن حفظ القرآن فهو شيخ مهما تكن سنه.كان ينتظر أن يكون شيخاً حقاً، فيتخذ العمة ويلبس الجبة والقفطان، وكان من العسير إقناعه بأنه أصغر من أن يحمل العمة ومن أن يدخل في القفطان.. وكيف السبيل إلى إقناعه بذلك وهو شيخ قد حفظ القرآن! وكيف يكون الصغير شيخاً! وكيف يكون من حفظ القرآن صغيراً هو إذاً مظلوم ... وأي ظلم أشد من أن يُحال بينه وبين حقه في العمة والجبة والقفطان!
    وما هي إلا أيام حتى سئم لقب الشيخ، وكره أن يُدعى به، وأحس أن الحياة مملؤة بالظلم والكذب، وأن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأبوة والأمومة لا تعصم الأب والأم من الكذب والعبث والخداع.
    كان لا يزال صغيراً، ولم يكن من اليسير إرساله إلى القاهرة، ولم يكن أخوه يحب أن يحتمله، فأشار بأن يبقى حيث هو سنة أخرى...

    المحتويات 

    - كلمة المؤلف .........................................................................................................ص : 7
    - الكتاب الأول ........................................................................................................ ص : 13
    - الكتاب الثاني ........................................................................................................ ص :123
    -الكتاب الثالث ..........................................................................................................ص : 307

    ضع تعليق

سياسة الخصوصية | اتصل بنا | copyright 2013 © 2014 مجرة الكتب