القميص المسروق وقصص أخرى - غسان كنفاني

    رفع رأسه إلى السماء المظلمة وهو يقاوم شتيمة كفر صغيرة أوشكت أن تنزلق عن لسانه ، واستطاع أن يحس الغيوم السوداء تتزاحم
    كقطع البازلت ، وتندمج ثم تتمزق.
    القميص المسروق وقصص أخرى
    إن هذا المطر لن ينتهي الليلة ، هذا يعني أنه لن ينام ، بل سيظل منكبا على رفشه ، يحفر طريقا تجر المياه الموحلة بعيدا عن أوتاد الخيمة ، لقد أوشك ظهره أن يعتاد ضرب المطر البارد.. بل إن هذا البرد يعطيه شعورا لذيذا بالخدر.
    إنه يشم رائحة الدخان ، لقد اشعلت زوجه النار لتخبز الطحين ، كم يود لو أنه ينتهي من هذا الخندق ، فيدخل الخيمة ، ويدرس كفيه الباردتين في النار حتى الاحتراق ، لا شك أنه يستطيع أن يقبض على الشعلة بأصابعه ، وأن ينقلها من يد إلى أخرى حتى يذهب هذا الجليد عنهما..ولكنه يخاف أن يدخل هذه الخيمة ، إن في محاجر زوجه سؤالا رهيبا ما زال يقرع فيهما منذ زمن بعيد ،لا ، إن البرد أقل قسوة من السؤال الرهيب. ستقول له إذا ما دخل وهي تغرس كفيها في العجين ، وتغرس عينيها في عيونه : هل وجدت عملا ؟ ماذا سنأكل إذن؟ كيف استطاع أبو (فلان) أن يشغل هنا وكيف استطاع (أبو علتان) أن يشتغل هناك؟ ثم ستشير إلى عبد الرحمن المكور في زاوية كالقط المبلول ، وستهز رأسها بصمت أبلغ من ألف ألف عتاب..ماذا عندك الليلة ليقول لها سوى ما يقوله في كل ليلة..
    - هل تريدينني أن أسرق لأحل مشاكل عبد الرحمن؟
    ونصب قامته بهدوء لاهث ، ثم ما لبث أن عاد ، فاتكأعلى الرفش المكسور ، وأنشأ يحدق بالخيمة الداكنة مستشعرا قلقا عظيما وهو يسأل نفسه :
    - وماذا لو سرقت؟
    إن مخازن وكالة الغوث الدولية تقع على مقربة من الخيام ، إن قرر أن يبدأ فهو يستطيع بالتأكيد أن ينزلق حيث يتكدس الطحين والرز ، من ثقب ما سيجده هنا أو هناك ، من عند ناس قال عنهم أستاذ المدرسة لعبد الرحمن إنهم ((يقتلون القتيل ويمشون في جنازته)) . فماذا يضر الناس لو أنه سرق كيس طحين..كيسين..عشرة؟ وماذا لو باع شيئا من هذا الطحين إلى واحد من أولئك الذين يتمتعون بقدرة عظيمة على استنشاق روائح مسروقات ، وبقدرة أعظم في المساومة على ثمنها؟...

    ضع تعليق

سياسة الخصوصية | اتصل بنا | copyright 2013 © 2014 مجرة الكتب